الخميس، ديسمبر 8

"..جاهدهم به .."

"..جاهدهم به .." 
 
د. صلاح الخالدي 


قال الله عز وجل: {فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان:52]


هذه الآية الحكيمة من سورة الفرقان، وسورة الفرقان مكية بإجماع العلماء ينهي الله رسوله صلى الله عليه وسلم في هذه الآية عن طاعة الكافرين، ويأمره فيها بجهاد هؤلاء الكافرين، ويصف هذا الجهاد بأنه جهاد كبير..


وهذه آية قصيرة، مكونة من جملتين قصيرتين، لكنها تقرر حقائق إيمانية قرآنية عظيمة..


الجُملة الأولى: { ولا تُطع الكافرين..} : جُملة طلبية، تطلب الامتناع عن طاعة الكافرين، والنهي يدل على التحريم، وطاعة الكافرين حرام شرعاً، ومن أطاع الكافرين فقد عصى الله، وعرض نفسه لعذاب الله!


الجُملة الثانية: { وجاهدهم به جهاداً كبيراً} جُملة طلبية ثانية، تأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بجهاد هؤلاء الكافرين بالقرآن، وتقرر أن جهادهم بالقرآن جهاد كبير، أي: هو جهاد ناجح مؤثر، وصاحبه مفلح فائز.


ولنقف وقفة بيانية سريعة مع جُملتي الآية، قبل أن نُشير إلى أبعادها.


الفاء في الجُملة الأولى: { فلا تُطع الكافرين} تسمى عند البيانيين " إلغاء الفصيحة" وهي التي تدخل على جواب الشرط، ويُقدر قبلها أداة شرط وفعل شرط، وسُميت إلغاء الفصيحة لأنها "تفصح" وتشير وترشد إلى الشرط قبلها، ولا بد من تقدير أداة الشرط وفعل الشرط قبلها، وفاء الفصيحة مذكورة في القرآن مئات المرات، ولا بد من حسن الالتفات إليها، وتقدير الشرط هنا، إن عرفت واجبك فلا تطع الكافرين.

والواو في الجملة الثانية: "وجاهدهم به" حرف عطف، عطفت فعل الأمر: "جاهدهم" على الفعل المُضارع المجزوم: "لا تطع.." وجاز العطف هنا لأن كل واحدة من الجملتين تحمل معنى الطلب:

الأولى تطلب عدم طاعتهم، والثانية تطلب جهادهم! ولأن المُضارع فيه معنى الأمر، فكأنها عطفت الأمر على الأمر، والتقدير: اعص الكافرين وجاهدهم.. "هم": في محل نصب مفعول به، يعود على الكافرين.. والضمير في "به" : يعود على القرآن. و "جهاداً" مفعول مطلق. و"كبيراً": صفة منصوبة.

والآن تعالوا معنا نتعرف على بعض أبعاد وإيحاءات ودلالات هذه الآية الحكيمة المعجزة..

الخطاب في ظاهره لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لكنه ليس خاصاً به، وإنما هو عام يشمل كل مسلم من بعده، ذكراً كان أو أنثى، حتى قيام الساعة، والقاعدة القرآنية تقول: خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم خطاب لأمته ما لم يقم دليل على التخصيص. فالله ينهى كل مسلم منا عن طاعة الكافرين، مهما كان موقفه، سواء كان حاكماً أو محكوماً، ونركز على مُخاطبتها لكل حاكم، تقول له: أيها الحاكم الفلاني: لا تُطع الكافرين من اليهود والأمريكيين وغيرهم!!

وبما أن النهي للتحريم فإن الحاكم الفلاني إذا أطاع الكافرين فقد خالف الآية، وعصى بذلك ربه، ودلني على حاكم في هذه الأيام لا يطيع الكافرين الآمرين.

لماذا نهى الله كل مسلم عن طاعة الكافرين؟ لأن الكافرين حاقدون علينا، ولا يريدون لنا خيراً ولا نجاحاً ولا توفيقاً، ولا يرضون عنا إلا إذا تركنا ديننا واتبعنا باطلهم، وأوامرهم الموجهة لنا _ أو إلى مسؤولينا وحكامنا بتعبير أدق _ لتحقيق هذا الهدف. إنهم لا يأمرون إلا بالشر والدمار والفساد والهلاك. وطاعتهم في هذه الأمور انتكاسة لنا وتدمير لأوطاننا! فكيف يطيعهم المسؤولون في هذه الأوامر التخريبية المدمرة؟ فالله عز وجل يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ* وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ...} [آل عمران : 100-101]

أمر الله كل مسلم بالجهاد بصيغة آمرة جازمة حازمة: "وجاهدهم"، والأمر في الأصل للوجوب، ولا يُصرف عن الوجوب إلا لقرينة، وهي غير موجودة هنا، والخطاب في "جاهِدهم" عام يشمل كل مسلم صالح، ذكراً كان أو أنثى، حتى قيام الساعة، ومن لم يجاهد الكفار فقد ترك فرضاً واجباً، ومن ترك فرضاً واجباً فقد عصى الله وعرض نفسه لعذاب الله.

عطف الأمر بجهاد الكافرين على النهي عن طاعتهم ملحوظ مقصود هادف، ونعلم أن العطف يدل على التغاير، فالمعطوف غير المعطوف عليه، فإذا نهينا عن طاعة الكافرين فقد أُمرنا بجهادهم، إن البديل لطاعتهم في إملاءاتهم التخريبية هو عصيانهم، ثم جهادهم ومواجهتهم، وتحديهم والوقوف أمام مطامعهم ومؤامراتهم، وإفشال أهدافهم ومُخططاتهم ..

الباء في "به" حرف جر، ومعناها الاستعانة. والهاء ضمير يعود على القرآن، والمعنى: جاهد الكفار بالقرآن، واستعن على جهادهم بالقرآن، وليكن القرآن العظيم أهم سلاح لك في جهادهم ومواجهتهم وتحديهم.

إن شبه الجملة "به" وتعلقها بفعل الأمر "جاهدهم" تدلنا على الطبيعة الحية الحركية لهذا القرآن الحبيب، والتي قد يغفل عنها كثير من حملة القرآن في هذا الزمان: إن القرآن كتاب جهاد ومواجهة وتحدّ، وإنه سلاح عظيم بيد القرآني المُجاهد، وإذا لم يستعمل المسلمون هذا السلاح القرآني يفشلون، ونقدم هذه الدلالة الجهادية الحركية للقرآن إلى إخواننا وأخواتنا وأبنائنا وبناتنا في مراكز تحفيظ القرآن.

أمرنا بجهاد الكافرين بالقرآن ليعرفنا على طبيعة الجهاد، التي قد يجهلها كثير من مسلمي هذا الزمان، ومنهم من يحمل سلاحه ويقاتل الكفار ويطلق النار عليهم! يخطئ من يقصر الجهاد على القتال، ويحصره بإطلاق النار عليهم، إن هذا الأسلوب هوميدان من أساليب الجهاد العديدة، ولكنه ليس مقصوراً عليه، صحيح أن كل قتال جهاد، وأن القتال من أشرف وأفضل صور الجهاد، لكن ليس كل جهاد قتالاً. الجهاد المأمور به في هذه الآية من سورة الفرقان المكية هو جهاد الدعوة وجهاد المواجهة، وجهاد التحدي، وجهاد الثبات، وهذا لا قتال ولا إطلاق نار فيه، وهو جهاد نافع مؤثر، ويكفي أن الله جعله جهاداً كبيراً، وذلك كي لا يقلل منه أو يزهد فيه المجاهدون، وإذا حيل بيننا وبين جهاد القتال وحمل السلاح فلا يمنعنا أحد من جهاد الدعوة والكلمة وجهاد الإنترنت و"الفيسبوك"!!


(البوصلة)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق