الخميس، أبريل 12

الجهاد خير للمسلمين 1-2



 

د. صلاح الخالدي 
قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم . تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون . يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنان عدن ذلك الفور العظيم . وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب، وبشر المؤمنين} [الصف: 10-13].

هذه أربع آيات من سورة الصف الجهادية، التي تتحدث عن معالم الصف المسلم المجاهد، وتبين فضل الجهاد والمجاهدين، وتقرر أن المجاهدين هم أحباب الله، وأنصار الله، والفائزون عند الله. قال تعالى: {إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفّاً كأنهم بنيان مرصوص} [الصف:4].

ووقفتنا هنا مع الآيات الأربع، التي تعتبر الجهاد تجارة رابحة منجية! ترغب الآيات في الجهاد عن طريق التشويق والإثارة، وتقرن بين الإيمان والجهاد، على أن الجهاد ثمرة عملية للإيمان، وتعتبرهما تجارة منجية من عذاب أليم، وتسجل أهم ثمرات ونتائج الجهاد، وهي مغفرة الذنوب، والفوز بالجنات، والفتح القريب في الدنيا، وتدعو المؤمنين المجاهدين إلى الاستبشار بهذه البشرى، والتطلع إليها، لينالوها ويُحَصِّلوها بالجهاد.

1.قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم}:

تتكون هذه الآية من ثلاث جمل، هي:
أ.{يا أيها الذين آمنوا}:
بدأت الآية المرغبة في الجهاد والمشوقة إليه بالنداء: {يا أيها الذين آمنوا}. والمنادي هو الله، والمنادى هم المؤمنون، وأن يتفضل ويتكرم الله العلي العظيم بمناداة المؤمنين، فهذا فضل عظيم يتفضل به عليهم، بأن يجعلهم أهلاً لندائه، ومحلاًّ لسماع كلامه، كما يدل هذا على أهمية موضوع النداء، وهو الترغيب في الجهاد، بحيث استدعت أهميته أن ينادي الله العظيم المؤمنين من أجله.

ولما نادى الله المؤمنين، وصفهم بأفضل الأوصاف، وأحبها إلى قلوبهم: {الذين آمنوا}. وهو الوصف الذي كانوا يعتزُّون به. ومن أهداف بدء الآيات بندائهم بصفة {الذين آمنوا} مخاطبة مشاعرهم الإيمانية، وإيقاظ الإيمان في قلوبهم، لتتهيأ نفوسهم لتلقي ما بعد النداء، فكأن هذا النداء بالإيمان تمهيد للترغيب في الجهاد والتشويق إليه.

ب.{هل أدلكم على تجارة}:
"هل": حرف استفهام، وهو هنا للترغيب والتشويق. ومعنى "أدلكم": أرشدكم. و"تجارة": مصدر على وزن "فعالة"، يدل على حرفة ومهنة، والتجارة هي: تقليب الأمر وتحريكه، والحركة به، وتبادل السلع، بهدف الربح وكسب المال. والاستعمال المألوف للتجارة هو الاستعمال المادي، القائم على تبادل السلع، بيعاً وشراء، وتقليب البضائع وتداولها وتحريكها

وانتقالها، بهدف الكسب المالي، لكنها هنا بمعنى آخر، غير هذا المعنى المادي، نقوله بعد قليل إن شاء الله. و"تجارة" في الآية نكرة. وهذا التنكير للتشريف والتكريم، فهي تجارة، وأي تجارة، إنها تجارة شريفة فاضلة لا يعلم فضلها إلا الله.

ج:{تنجيكم من عذاب أليم}:
"تنجيكم": جملة فعلية، مكونة من فعل مضارع وفاعل ومفعول. وهذه الجملة الفعلية في محل جر صفة لكلمة "تجارة". والتقدير: على تجارة منجية لكم... ومعنى "تنجيكم": تنقذكم، وتخلِّصكم من العذاب الأليم، وتخرجكم من الخطر، وتأخذ بأيديكم إلى الأمان.

وتنكير "عذاب" للعموم والتهويل. ليشمل جميع صور العذاب ومظاهره وألوانه، في الدنيا والآخرة، العذاب المادي والمعنوي، والنفسي والعصبي والاجتماعي، وغير ذلك.

وكل كلمات الآية تلقي ظلال التشويق والإثارة والترغيب؛ وهي: "هل": استفهام للتشويق... و"أدلكم": فعل مضارع للتشويق؛ لأنه مسند إلى الله، فالله بعظمته هو الذي سيدل ويرشد... و"تجارة": مصدر للتشويق؛ من خلال تنكيرها، ومن خلال استعمالها، وإطلاقها على الإيمان والجهاد... ووصف التجارة بأنها منجية: "تنجيكم" للتشويق، فلا يمكن لأي عاقل، تقول له: هل تحب أن أدلك على ما ينجيك، ويقول: لا أريد أن تدلني!! والتجارة تنجي من "عذاب أليم". وهذا تشويق آخر في الآية: تنكير "عذاب" للعموم والتهويل، ووصفه بأنه "أليم". وهو صفة مشبهة بمعنى اسم الفاعل: من عذاب مؤلم.

2.قوله تعالى: {تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون}:
هذه الآية جواب على السؤال المشوق في الآية السابقة، ويأتي هذا الجواب في لحظته النفسية المناسبة، حيث المؤمنون في قمة الإثارة والشوق، وفي غاية الانتباه والحضور الذهني والاستعداد النفسي، والرغبة في معرفة التجارة المنجية ليأخذوها. وهذه الآية مكونة من أربع جمل:

أ.{تؤمنون بالله ورسوله}:
دلت الآية على أن التجارة الرابحة المنجية تقوم على عنصرين أساسيين: الأول: الإيمان بالله ورسوله،

والثاني: الجهاد في سبيل الله بالنفس والمال.
ذكرت هذه الجملة العنصر الأول -وهو الإيمان- لأنه أساس قبول الأعمال كلها عند الله. وجاء التعبير بالفعل المضارع: "تؤمنون"؛ لأنه فعل حيوي، يدل على التجدد والاستمرار، والحيوية والتفاعل والزيادة.
والذي يزداد عند المؤمن ليس حقيقة الإيمان، فهذه حقيقة مستقرة ثابتة لا تقبل الزيادة، إنما الذي يزداد هو مستوى الإيمان، وقوة الإيمان، وتفاعل الإيمان، وآثار الإيمان، فكلما ازدادت هذه المعاني الإيمانية، كان الإيمان دافعاً محركاً مؤثراً موجهاً. وذكرت الجملة ركنين من أركان الإيمان: الإيمان بالله ورسوله؛ لأنهما أهم ركنين يتعلقان بموضوع الآية وهو الجهاد.

وإسناد فعل "تؤمنون" إلى واو الجماعة للإشارة إلى أهمية الجماعة في الإسلام، وأهمية الجماعة في تقوية وزيادة الإيمان، فالجماعة بيئة مناسبة لتفاعل الإيمان وانتشاره في كافة جوانب الكيان الإنساني المؤمن.

واعتبار الإيمان بالله ورسوله العنصر الأول من عنصري التجارة المنجية تشويق آخر من مظاهر الإثارة والتشويق؛ لأنه يخاطب المؤمنين، وكأنه يقول لهم: التجارة الرابحة تقوم على عنصرين: الإيمان والجهاد. وأنتم حققتم العنصر الأول وهو الإيمان، وبذلك قطعتم منتصف الطريق، وهانت المسألة. وهذا تشويق ملحوظ.

ب. {وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم}:
ترشد هذه الجملة إلى العنصر الثاني من عناصر التجارة المنجية؛ وهو الجهاد. وحكمة عطف الجهاد على الإيمان أنه ثمرة من ثمراته، ونتيجة عملية من نتائجه، وأثر ميداني من آثاره. ومعنى هذا أن الإيمان لا يكون مؤثراً قويّاً فاعلاً إذا لم ينتج عنه الجهاد؛ لأن الإيمان لا يقبل أن يكون حبيس التصور فقط، ولا أن يكون محصوراً في "المنطقة الذهنية الباردة" عند المسلم، ولا أن يكون مجرد تصور وتصديق، ومعرفة وثقافة، إنه ينتقل من هذه الزاوية المعرفية الثقافية النظرية إلى الدائرة العملية الحركية الإيجابية!

إنه بمجرد أن يستقر الإيمان في التصور والعقل، ينتقل إلى القلب والشعور والوجدان، فيتفاعل معه، ويحركه بحركته ثم يسعى إلى خارج الكيان، ليتحقق عمليّاً في صورة عمل صالح، يصدر عن هذا المؤمن. وما الجهاد إلا ثمرة عملية حركية للإيمان، من أفضل وأبرك ثماره!

وحكمة التعبير بالمضارع "تجاهدون" الإشارة إلى التجدد والتفاعل والحيوية والاستمرار في الجهاد؛ بمعنى أنه لا بد أن يستمر المؤمن المجاهد على الجهاد، وأن يتواصل فيه، بحيث لا يمر عليه يوم لم يحقق مظهراً من مظاهر الجهاد، ولم يقم فيه بصورة من صور الجهاد.

وإسناد فعل "تجاهدون" إلى واو الجماعة العائدة على المؤمنين مقصود؛ لأن الجماعية ملحوظة في الجهاد، بمعنى أنه لا بد أن يكون الجهاد حركة جماعية منظمة مرتبة منسقة، تصدر عن الأمة المجاهدة، بمجموعها وهيئتها وشخصيتها، حتى يؤتي الجهاد أُكله، ويحقق الغاية المقصودة منه!

وشبه الجملة "في سبيل الله" متعلقة بالفعل "تجاهدون". ودل هذا على أنها تقييد للفعل؛ بمعنى أن الجهاد لن يكون مقبولاً حتى يكون في سبيل الله، خالصاً لوجه الله، بهدف نصرة دين الله. فإذا كان هذا الجهاد لغرض دنيوي لم يكن مقبولاً ولا مبروراً عند الله، كمن يجاهدون لمجرد حماية الوطن، أو الدفاع عن القوم والأهل، أو لمجرد إظهار الشجاعة، أو طلب الثناء من الناس، إن هذه نوايا مبطلة للجهاد عند الله. وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياء؟ أي ذلك في سبيل الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله"!

والباء في "بأموالكم" تدل على معنى الوسيلة. وتذكر الجملة وسيلتين من وسائل الجهاد المبرور: الوسيلة الأولى "أموالكم"، والوسيلة الثانية: "أنفسكم". ومعلوم أن المال ضروري للجهاد، وأن تقديم المال لتمويل العمليات الجهادية، ودعم المجاهدين لا بد منه.
وحكمة تقديم الأموال على الأنفس هنا، التناسب والتوافق مع التجارة المنجية، المذكورة في الآية السابقة: {أدلكم على تجارة تنجيكم}؛ فبما أن التجارة المادية تقوم على المعاوضة والتبادل السلعي والبيع والشراء، وهذا كله يعتمد على المال؛ لذلك قدم الأموال على الأنفس هنا، بينما قدمت الأنفس على الأموال في آيات أخرى لِحكَم أخرى!

وحذف المفعول به لفعل "تجاهدون" هنا، مع أن هذا الفعل يتعدى إلى المفعول به. تقول: أنا جاهدت الأعداء. وقال تعالى: {يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين}[التحريم:9]، وحكمة حذف المعمول هنا التركيز على الفعل "تجاهدون"، دون النظر إلى المفعول به؛ لأن المفعول به معروف، إذ التقدير: "تجاهدون الأعداء في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم". وكأن الفعل نزل منزلة الفعل اللازم، فلم يلتفت إلى المفعول به، للترغيب في الجهاد لأنه جهاد!
ج. {ذلكم خير لكم}:

هذه الجملة الاسمية ترغيب آخر في ا لجهاد، وتشويق إليه حيث وصفته بأنه خيرٌ للمؤمنين. و"ذلكم": اسم إشارة، والميم فيه للتعظيم والتكريم؛ وذلك للإشارة إلى فضل وعظمة المشار إليه. والمشار إليه هو: الإيمان والجهاد، المذكوران في الجملتين السابقتين. والتقدير: "الإيمان والجهاد خير للأمة المؤمنة الجراهدة".
و"خير": أفعل تفضيل، لمدح الجهاد والثناء عليه. ولم يذكر في الجملة المفضَّل عليه، وهو ترك الجهاد والتخلي عنه. فلم تقل الجملة: الجهاد خير لكم من القعود، أو خير لكم من السلام! وذلك لمدح الجهاد في نفسه، وترغيب المجاهدين فيه، باعتباره خيراً لهم في نفسه!

وشبه الجملة "لكم" فيه معنى التخصيص، والخطاب فيها للمؤمنين المجاهدين؛ فهذا الجهاد خير، لكن خيره ليس مطلقاً، إنما هو خاص مقيد، فهو خير للمسلمين وحدهم، وفي الوقت الذي يكون فيه الجهاد خيراً للمسلمين المجاهدين، فإنه يكون شرّاً للأعداء المقاتلين لهم الطامعين فيهم. والتقدير: الجهاد خير لكم، وهو نفسه شر لأعدائكم.
وبما أن الجهاد شرٌّ للأعداء الكفار فإنهم يكرهونه ويحاربونه، وهم يحرصون على إبعاد المسلمين عنه، وعلى قتل روح الجهاد عند أبناء المسلمين وهم يكرهون المجاهدين الصادقين، ويحاربونهم حرباً بدون خلق أو إنسانية، ويصفونهم بأقذر الصفات، فيقولون عنهم إنهم: متطرفون، متعصبون، متزمتون، متوحشون، إرهابيون، ويستنفرون العالم كله ضدهم، ويوجهون قوات التحالف العالمي ضدهم، كما هو الحاصل الآن في أفغانستان والعراق وفلسطين.

وإذا كان الجهاد خيراً للأمة المسلمة بنص هذه الجملة فإن نقيض الجهاد شر لها... إن القعود والتثاقل والتكاسل عن الجهاد شر، وإن ترك الجهاد شر، وإن نشر ثقافة السلام والاستسلام الذليل شر، وإن كره المجاهدين ومحاربتهم والوقوف أمامهم شر للأمة، وتحقيق لأهداف الأعداء. وكم يخسر مسلمون عندما يتحولون إلى منفذين لرغبات الأعداء في محاربة المجاهدين!

والذي يدعو إلى العجب مخالفة مسلمين معاصرين لهذه الجملة القرآنية: {ذلكم خير لكم}، وهم المتأثرون بالثقافة الكافرة المعادية؛ حيث لا يعتبرون الجهاد خيراً للأمة، وإنما يعتبرونه شرّاً لها، وينظرون له على أنه توريط للأمة، وتهور واندفاع عاطفي غير عقلاني، وأنه يطمع أعداءها فيها، ويعتبرون المجاهدين متهورين مندفعين، جناة مجرمين، يدمرون موارد الأمة ويجلبون عليها المفاسد والشرور! الله يقول: الجهاد خير للمسلمين. وهؤلاء يقولون: الجهاد شر وتوريط وتدمير للمسلمين! وكل مسلم بصير يثق بكلام الله ويصدقه ويوقن به، ويرفض كلام أي إنسان مهما كان مركزه، إذا تعارض وتناقض مع كلام الله!!
د. {إن كنتم تعلمون}:

هذه الجملة الشرطية ختمت بها الآية، لعتاب وتوبيخ المتشككين في فضائل الجهاد. وجواب الشرط محذوف، دل عليه ما قبله. والتقدير: "إن كنتم تعلمون فالجهاد خير لكم". ومفعول "تعلمون" محذوف أيضاً. والتقدير: "إن كنتم تعلمون فضل الجهاد". والهدف من هذا هو الاستمرار في ترغيب المؤمنين في الجهاد، وحثهم عليه، وتشويقهم إليه؛ لأنهم إذا علموا فضله سارعوا فيه وتسابقوا إليه!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق