الأحد، فبراير 19

فوضى الفتاوى




د. صلاح الخالدي

يرى المتابع لأحوال عالمنا العربي والإسلامي في هذا الزمان وجود "فوضى" مزعجة في هذه الأحوال، فوضى عامة وشاملة في الأحوال السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعلمية والإدارية والأخلاقية، وغير ذلك.


وقد امتدت هذه الفوضى إلى الحالة الإسلامية! فنظرة معظم الناس إلى الإسلام وتعاملهم معه، وكلامهم عنه، فيها هذه الفوضى، ولم يسلم من هذه الفوضى إلا بعض الصالحين والصالحات، هنا وهناك.

والذي أريد أن أشير له في هذه "البصيرة" هو الفوضى الكبيرة في الفتاوى، التي تصدر عن بعض من "يتصدرون" للفتوى، في مختلف المواقع والوسائل، فهناك المفتون الرسميون، وهناك المفتون الحزبيون، وهناك مفتو الصحف والمجلات، وهناك مفتو الإذاعات، وهناك مفتو الفضائيات، وهناك مفتو الإنترنت والفيسبوك، وهناك المفتون من الرجال والمفتيات من النساء، وهناك المفتون المتشددون، والمفتون المترخصون "المودرن"، وهناك المفتون المسلمون، والمفتون النصارى، والمفتون اليهود، والمفتون الأمريكان، كل يفتي بالإسلام!! ولا بد من وضع حد لهذه الفوضى "الافتائية".

أشير في بعض ما يحصل معي، فقد أكون في المسجد، ومعي بعض الرجال، فيأتي أحدهم يسألني، وقبل أن أجيبه يندفع رجل شبه أمي بجانبي فيجيبه، فأقول له بسخرية مرة: هو يسألك أنت أم يسألني أنا؟!

ومن أعاجيب الفتاوى الشخصية ما صدر عن امرأة "واعظة" متصدرة للفتوى حيث دخلت على بيت عزاء، وألقت فيه كلمة للنساء، ثم توجهت إلى المرأة التي توفي زوجها بالأمس، وقالت لها: أنت الآن معتدة، تعتدين أربعة أشهر وعشرة أيام، ويحرم عليك في هذه المدة: الاغتسال بالصابون المعطر، استخدام معجون الأسنان، لبس الملابس غير السوداء، الخروج من باب البيت أو فتح نوافذه، الضحك أو الابتسام، فإن فعلت شيئاً من هذه المحرمات وجب عليك قضاء العدة من جديد!.

هناك فتاوى سياسية، واقتصادية، وأخلاقية، واجتماعية، وفيها ما فيها من فوضى، والمفتون أنواع، هناك مفتون رسميون، تعينهم الأنظمة والحكومات، وهؤلاء في ورطة، كان الله في عونهم، لأن المطلوب منهم ـ غالباً ـ إباحة ما يفعله الحكام، وما يصدر عن الحكومات ولو كان حراماً مجمعاً عليه، و"المفتي العام" يصدر الفتوى في الموضوع الواحد، تتناقض مع فتوى المفتي العام الآخر في بلد آخر، لأن نظرة ذلك الحاكم للموضوع مختلفة عن نظرة هذا الحاكم!!

بل إن المفتي قد يحرم أمراً ليوافق طلب وهوى الحاكم، فإذا تغير الحاكم أصدر نفس المفتي فتوى جديدة تتعارض مع نفس فتواه السابقة، والسبب هو تغير الحاكم، فمتى "تتحرر" فتاوى المفتيين الرسميين من ضغط الحكام والسلاطين؟ ولو راجعتم فتاوى المفتين الرسميين في مصر. في هذه الأيام الأخيرة لحكم "مبارك" وموقفهم من المتظاهرين، وقارنتموها مع نفس فتاواهم بعد خلع مبارك لتعجبتم من ذلك التناقض!

ومن فوضى الفتاوى العجيبة في زماننا أن بعضها صار يقدم وفق برنامج "ما يطلبه المستمعون" وصار بعض المفتين يقدم للمستمعين ما يحلو لهم، وما يتفق مع هواهم، وما يحبون أن يسمعوه.. استدعت إحدى الجمعيات النسائية أحد الشيوخ ليحدثهم عن النسل في الأردن، وقبل أن يبدأ الشيخ المحاضرة قال للمسؤولة: ماذا تحبون أن أقول للنساء حول تحديد النسل! هل أنتم مع تحليله أم مع تحريمه؟

"الفتوى" أمر خطير، ولا يجوز أن يتجرأ عليها من هو غير أهل لها، ويحرم على الإنسان أن يحلل أو يحرم بدون علم، فإن فعل ذلك كان كاذباً مفترياً على الله. قال تعالى: "وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـذَا حَلاَلٌ وَهَـذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ" [ النحل: 116].

والمفتي "مُوقِّع" عن رب العالمين، ولا بد أن يلحظ هذا المعنى، وأن يستشعر هذه الحالة قبل إصدار الفتوى، فلا يخضع فيها لهوى أحد، ولا يتأثر بترغيب أو ترهيب، وأنصح بقراءة كتاب "صفة الفتوى والمفتي والمستفتي" للإمام ابن تيمية، وكتاب: " أعلام الموقعين عن رب العالمين " للإمام ابن القيم.

وكان السلف الصالح يتحرجون من الفتوى، ويتدافعونها, خوفاً من الله مع أنهم "قامات كبار" في العلم، ونحن بالنسبة إليهم أقصر من بقل في أصول نخل !

وكان الإمام مالك بن أنس أعلم العلماء في عصره، فجاءه رجل من خرسان، وسأله أربعين سؤالاً، فأجابه عن ستة منها، وقال عن أربعة وثلاثين: لا أدري !! فقال له: أتيتك من أقصى الأرض لتقول لي: لا أدري.. فقال له: هذا علمي، أتريد أن تدخلني جهنم! وإن أجرأكم على الفتيا أجرؤكم على النار !!

وأبرز نموذج على "فوضى الفتاوى" في هذه الأيام: إضراب المعلمين الذي دخل أسبوعه الثالث، حيث أفتى فيه المؤهلون وغير المؤهلين، وتكلم فيه أهل العلم كما تكلم فيه أهل الهوى، وأهل الجهل، وأهل السلطان، وبينما أجازه بعض المتكلمين ـ وكنت واحداً منهم ولله الحمد ـ وأعادوا المسألة إلى أصلها وأساسها، وهو ظلم الحكومة للمعلمين، وجواز سعي المظلوم لأخذ حقه، ورفع الظلم عنه، فإن بعضهم جرم الإضراب، وجرّم المعلمين وأَثّمهم، وطالب بعقابهم، واعتبر هذا هو الفهم "السلفي" الأصيل الصحيح، وما سواه باطل وضلال !!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق